تأملات في الهجرة النبوية وعلاقتها بواقعنا المصري
بقلم: د. مصطفى شلبي
الحمد لله الذي لا يفسد عمل المصلحين ولا يصلح عمل المفسدين، الحمد لله القائل: (لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنْ اللَّهِ وَرِضْوَانًا وَيَنْصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَئِكَ هُمْ الصَّادِقُونَ (8))(الحشر).
وسبحانه وتعالى القائل: (إِلاَّ تَنصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا فَأَنزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (40)) (التوبة).
وسبحانه القائل: (إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ فَلا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ)(التوبة: من الآية 36).
وقد فصّل النبي صلى الله عليه وسلم ما أجمله القرآن، وبيَّن أن هذه الأشهر هي: رجب، وذو القعدة، وذو الحجة، ومحرم، قال صلى الله عليه وسلم: "إن الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق الله السموات والأرض، السنة اثنا عشر شهرًا، منها أربعة حرم، ثلاث متواليات: ذو القعدة وذو الحجة والمحرم، ورجب مضر الذي بين جمادى وشعبان".
وأكَّد النبي صلى الله عليه وسلم حرمة شهر ذي الحجة، فقال في حجة الوداع: "أي شهر هذا؟" قالوا: الله ورسوله أعلم، قال: "شهر حرام"، قال: "فإن الله حرَّم عليكم دماءكم وأموالكم وأعراضكم كحرمة يومكم هذا، في شهركم هذا، في بلدكم هذا"
وهذه الأشهر يحرم فيها القتال، كما يضاعف فيها الحسنات وتضاعف السيئات كما تغلظ دية القتيل فيها.
وقد شاءت إرادة الله أن تجري الانتخابات المصرية في شهرين من هذه الأشهر الحرم ذي الحجة والمحرم، فلنتذاكر جميعًا حرمة هذه الأيام، ولنعلم أن من تقوى القلوب تعظيم ما حرم الله، فلنتقي الله في أعراض بعضنا البعض، ولنتقي الله في دماء بعضنا البعض، ولا يسيغ أحد لنفسه الخوض في عرض أحد من أجل التنافس على مقعد نيابي.
وها نحن اليوم نعيش في أحد هذه الأشهر الحرم، وهو شهر الله المحرم هذا الشهر الذي نتذاكر فيه مشهد عظيم من مشاهد سيرة المصطفى صلى الله عليه وسلم ومرحلة مفصلية من حياة أمة التوحيد.
ولبيان خطورة هذه المرحلة وهذه المناسبة اختارها صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلى رأسهم عمر بن الخطاب لبداية التأريخ للمسلمين.
يروى في كتب السير والتاريخ أنه في السنة السابعة عشرة للهجرة كتب الخليفة الثاني عمر بن الخطاب رضي الله عنه إلى أبي موسى الأشعري عامله على البصرة وذكر في كتابه شهر شعبان فرد أبو موسى الأشعري أنه يأتينا من أمير المؤمنين كتب ليس فيها تاريخ، وقد قرأنا كتابًا محله شعبان، فما ندري أهو شعبان الذي نحن فيه أم الماضي.
فجمع الخليفة عمر الصحابة وأخبرهم بالأمر، وأوضح لهم لزوم وضع تاريخ يؤرخ به المسلمون، فأخذوا في البحث عن وقعة تكون مبدأ للتاريخ المقترح، فذكروا ولادته صلى الله عليه وآله وسلم ومبعثه ووفاته، لكن الإمام علي بن أبي طالب رضي الله عنه أشار بجعله يوم هجرة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم من مكة إلى المدينة، فراقت الفكرة للخليفة عمر وسائر الصحابة فأرخوا بها.
واختيار الصحابة رضوان الله عليهم الهجرة وتفضيلها عن مناسبات عظيمة مثل تاريخ مولده صلى الله عليه وسلم أو تاريخ بعثته أو تاريخ بدر أو أحد أو وفاته صلى الله عليه وسلم دليل على أهمية حدث الهجرة؛ وذلك لأنه تاريخ تأسيس الدولة في المدينة، فأصبح للمسلمين دولتهم على رأسها رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولها دستورها المدني، أول دستور عرفته البشرية، وهو دستور المدينة، وبدأ النبي صلى الله عليه وسلم تأسيس الدولة ببناء المسجد الذي سيربي فيه أعظم ما تمتلكه الدولة من موارد، ألا وهي الموارد البشرية، ثم كان إنشاء السوق لتكون بديلاً لسوق اليهود التي كانت تدار بالغش والتدليس والربا، فاعتمد النبي صلى الله عليه وسلم سياسة تقديم البديل الاقتصادي الصحيح القائم على الأمانة والقسط، ثم كان تأسيس الجيش الحامي لهذه الدولة.
وهذا يضع أيدينا على أهمية وجود الدولة ومؤسساتها، ونحن اليوم أحوج ما نكون لإعادة وبناء مؤسسات الدولة بصورة شرعية صحيحة، وبأقصى سرعة فتلك مصلحة الشعب كله بجميع طوائفه وفصائله، إذًا فإجراء الانتخابات لعودة المؤسسة التشريعية والرئاسية والمحليات بأقصى سرعة ليست مصلحة فصيل معين، ولكنها مصلحة الوطن والشعب كله.
ولنقتطف زهرات من هجرته صلى الله عليه وسلم نستنشق عبيرها
1- لما أذن الله سبحانه وتعالى لنبيه بالهجرة، أمر الصحابة بالهجرة ولم يسبقهم بالهجرة إلى دار الأمان بالمدينة، وإنما انتظر الرسول صلى الله عليه وسلم حتى هاجر الصحابة، وظل بين ظهراني الأعداء حتى هاجروا ثم لحق بهم النبي صلى الله عليه وسلم.
وهنا يضرب النبي صلى الله عليه وسلم المثل والقدوة لكل مسئول سيتبوأ منصبًا ما في مصر بعد الثورة، أن يكون في المقدمة حين الفزع والشدة، وليكن في المؤخرة حين المغنم، فعلى يد أمثال هؤلاء القادة يصلح الله البلاد والعباد.
2- لما هاجر النبي صلى الله ودخل المدينة كان عبد الله بن أبي بن سلول سيتوج ملكًا على الأوس والخزرج، فلما جاء النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة المنورة انصرف عنه الناس، فحمل في قلبه حقدًا كبيرًا على الدعوة، فجعل ماله ووقته وجهده هو واتباعه في حرب مع الدعوة.
وهذا ما فعله البعض بعد ثورتنا المصرية المباركة، فبعد أن أوشكوا على التتويج فإذا بثورتنا المباركة وبفضل من الله على مصر وأهلها يحبط مكرهم ويفسد مخططاتهم، فآلو على أنفسهم أن يبذلوا كل غالٍ ونفيس لإقامة ثورة مضادة متمثلة في حالة انفلات أمني، ومحاربة للعودة السريعة لمؤسسات الدولة؛ حتى تشيع حالة الفوضى؛ ليكون الأمل الوحيد لعودتهم لصدارة المشهد من جديد، وكذلك أصحاب الأيديولوجيات الغريبة على الأمة المصرية وهويتها، والذين لم يجدوا قبولاً من شعب مصر ما بعد الثورة أيضًا آلو على أنفسهم بذل المال والجهد للتخطيط والمكر حتى لا يهنأ هذا الشعب العظيم بمكاسب ثورته العظيمة، وليعلم هؤلاء جميعًا أن الله الذي أبطل كيد ومكر عبد الله بن أبي بن سلول سيبطل كيدهم ومكرهم، وسيجعل كيدهم في نحورهم.
3- عبقرية القائد صلى الله عليه وسلم في توظيف الأفراد وفقًا لقدراتهم وإمكانياتهم فها هو علي بن أبي طالب له مهمة تتلاءم مع عمره وشجاعته، وأسماء بنت أبي بكر لها مهمة، وعبد الله بن أبي بكر له مهمة وأبو بكر الصديق رضي الله عنه له مهمة، وخبير الطريق عبد الله بن أريقط له مهمة، وبعد الهجرة وقيام الدولة كان لأبي هريرة مهمة حفظ الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وخالد بن الوليد مهمة قيادة الجيوش حتى كان يصلي بالناس بالسور القصار، وكان يعتذر للصحابة بأن الخروج للجهاد وانشغاله بالقتال في سبيل الله شغله عن حفظ القرآن، وكان لأبي ذر رضي الله عنه مهمة تتفق مع قدراته وإمكاناته، فلما طلب مهمة لا تتناسب مع هذه القدرات ردَّه النبي صلى الله عليه وسلم ونصحه.
فعن أبي ذر الغفاري– رضي الله عنه- قال قلت: يا رسول الله ألا تستعملني؟ قال فضرب بيده على منكبي ثم قال: "يا أبا ذر إنك ضعيف، وإنها أمانة، وإنها يوم القيامة خزي وندامة إلا من أخذها بحقها، وأدى الذي عليه فيها" رواه مسلم
والضعف هنا ليس ضعف الأمانة أو التقوى، ولكنه الضعف الذي لا يتلاءم مع متطلبات الولاية والإمارة.
يقول الإمام ابن تيمية في كتاب "السياسة الشرعية": "إن المعيار الأهم في اختيار الحكام هو (الخبرة) في تولي المناصب و(الكفاءة) وإن هذا أهم من تقديرك لتدينه؛ لأن تدينه لنفسه وكفاءته للناس".
كل هذا يعطينا الدرس في حسن توظيف الأفراد واكتشاف المواهب والقدرات وتوظيفها التوظيف الصحيح وكذلك الاجتهاد في انتقاء واختيار الأفراد المناسبة للوظائف والمهام والولايات المناسبة فالشخص المناسب في المكان المناسب.
4- لما هاجر النبي صلى الله عليه وسلم للمدينة، وكان الأنصار قبيلتين كبيرتين: الأوس، والخزرج، وكانت الحروب لا تنقطع بينهما قبل أن يعتنقوا الإسلام، فصالح الرسول صلى الله عليه وسلم بينهما، ونزع الله من قلوبهم العداوة والكراهية، وحلَّ محلها الحب والمودة والوئام، وبعد أن استقر المهاجرون، وصلح حال الأنصار، بقي أن يندمجوا معًا فيصبحوا أخوة مسلمين، فلا فرق بين مهاجر وأنصاري، لذلك آخى رسول الله صلى الله عليه وسلم بينهم فجعل لكل مهاجر أخًا من الأنصار، فأبو بكر الصديق أخ لخارجة بن زهير، وعمر بن الخطاب أخ لعتبان بن مالك، وعبد الرحمن بن عوف أخ لسعد بن الربيع، ولم تكن الأخوة مجرد كلمة تقال، بل طبقها المسلمون تطبيقًا فعليًّا، فهذا سعد بن الربيع الأنصاري يأخذ أخاه عبد الرحمن بن عوف، ويعرض عليه أن يعطيه نصف ما يملك، ولكن عبد الرحمن بن عوف يشكره ويقول له: بارك الله لك في أهلك ومالك، ولكن دُلَّني على السوق، وذهب عبد الرحمن إليه فربح وأكل من عمل يده. (البخاري).
ولم يقتصر ذلك على سعد بن الربيع بل فعله كثير من الصحابة؛ حتى إنه كان يرث بعضهم بعضًا بناءً على هذه الأخوة، فيرث المهاجر أخاه الأنصاري، ويرث الأنصاري أخاه المهاجر، وظلوا على ذلك حتى جعل الله التوارث بين ذوي الأرحام، وقد أثنى الله-عز وجل- على المهاجرين والأنصار، فقال تعالى: (لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنْ اللَّهِ وَرِضْوَانًا وَيَنْصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَئِكَ هُمْ الصَّادِقُونَ (8) وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الْمُفْلِحُونَ (9)) (الحشر).
إن الذي وحَّد فصائل الأمة فأصبحوا بنعمته إخوانًا يضربون المثل في الحبِّ والفداء والإيثار والتفاني في خدمة بعضهم البعض هو منهج الإسلام، وهو المنهج القادر على توحيد فصائل الأمة؛ لأنه المنهج الخالق للمخلوق، منهج العدالة المطلقة، المنهج الذي تتنزل آياته من فوق سبع سماوات لتبرئة يهودي وإدانة مسلم، كما ورد في سورة النساء (إِنَّا أَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ وَلا تَكُنْ لِلْخَائِنِينَ خَصِيمًا (105) وَاسْتَغْفِرْ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا (106) وَلا تُجَادِلْ عَنْ الَّذِينَ يَخْتَانُونَ أَنفُسَهُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ مَنْ كَانَ خَوَّانًا أَثِيمًا (107) يَسْتَخْفُونَ مِنْ النَّاسِ وَلا يَسْتَخْفُونَ مِنْ اللَّهِ وَهُوَ مَعَهُمْ إِذْ يُبَيِّتُونَ مَا لا يَرْضَى مِنْ الْقَوْلِ وَكَانَ اللَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطًا (108) هَاأَنْتُمْ هَؤُلاءِ جَادَلْتُمْ عَنْهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فَمَنْ يُجَادِلُ اللَّهَ عَنْهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَمْ مَنْ يَكُونُ عَلَيْهِمْ وَكِيلًا (109) وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءًا أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرْ اللَّهَ يَجِدْ اللَّهَ غَفُورًا رَحِيمًا (110) وَمَنْ يَكْسِبْ إِثْمًا فَإِنَّمَا يَكْسِبُهُ عَلَى نَفْسِهِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا (111) وَمَنْ يَكْسِبْ خَطِيئَةً أَوْ إِثْمًا ثُمَّ يَرْمِ بِهِ بَرِيئًا فَقَدْ احْتَمَلَ بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا (112) وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ وَرَحْمَتُهُ لَهَمَّتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ أَنْ يُضِلُّوكَ وَمَا يُضِلُّونَ إِلاَّ أَنفُسَهُمْ وَمَا يَضُرُّونَكَ مِنْ شَيْءٍ وَأَنزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكَانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيمًا (113))(النساء).
إن حالة الفرقة والتشاحن والتنافر والتصارع الذي تعيشه الأمة المصرية بل الأمة العربية والإسلامية نتاج الاحتكام إلى مناهج اشتراكية تارة والمناهج الرأسمالية تارة أخرى، فالحل لتوحيد الصف هو أن نعيش في ظلِّ هذا المنهج ثقافةً وسلوكًا وأخلاقًا، ولنستمع لقول الله عزَّ وجلّ: (وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنْ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (103)) (آل عمران).
مقال 2
حول معنى الهجرة وفضلها وحظنا منها
بقلم: الشيخ أحمد حسنين
عناصر الخطبة:
1- التعريف
2- شرط الهجرة
3- أنواع الهجرة
4- الثناء على المهاجرين
5- الهجرة سنة من قبلك من رسلنا
6- حظنا من الهجرة
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، مَن يهده الله فلا مضلَّ له ومن يضلل فلا هادي له، أشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير.. شهادة عبده وابن عبده وابن أمته ومَن لا غنى به طرفة عين عن رحمته، أشهد أن محمدًا عبد الله ورسوله أرسله الله رحمةً للعالمين فشرح به الصدور، وأنار به العقول، وفتح به أعينا عُميًّا وآذانًا صُمًّا وقلوبًا غُلفًا، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه والتابعين لهم بإحسان وسلَّم تسليمًا كثيرًا.. أما بعد:
فالهجرة في اللغة:
الخروج من أرضٍ إلى أخرى، وانتقال الأفراد من مكانٍ إلى آخر سعيًا وراء الرزق، والمهاجر: الذي هاجر مع النبي وإليه" (1)"والهجر ضد الوصل، والتهاجر التقاطع، ويكون الهجر بالقلب واللسان والبدن، فمن الهجر بالبدن قوله تعالى: (وَاهْجُروهُنَّ فِي المَضَاجِعِ).
ومن الهجر باللسان قول عائشة- رضي الله عنها- لما قال لها النبي صلى الله عليه وسلم: "إني لأعلم إذا كنت عني راضية وإذا كنت عليَّ غضبى، أما إذا كنتِ عليَّ راضيةً فإنك تقولين: لا ورب محمد، وإذا كنت غضبى قلت: لا ورب إبراهيم، قالت: أجل، والله يا رسول الله ما أهجر إلا اسمك" (2) ومن الهجر بالقلب ما جاء في حديث: "من الناسِ مَن لا يذكر الله إلا مهاجرًا" قال ابن الأثير نقلاً عن الهروي: يريد هُجران وترك الإخلاص في الذكر فكأنَّ قلبه مهاجر للسانه غير مواصل له".
أما شرعًا:
فقد عرفها الجرجاني: "هي ترك الوطن الذي بين الكفار والانتقال إلى دار الإسلام" (3)وأعم منه ما قاله الحافظ ابن حجر: "الهجرة في الشرع ترك ما نهى الله عنه" (4)، لقوله – صلى الله عليه وسلم: "المهاجر من هجر ما نهى الله عنه" (5) وهي تشمل الهجرة الباطنة، وهي: ترك ما تدعو إليه النفس الأمارة بالسوء وما يزينه الشيطان، والظاهرة وهي: الفرار من بالدين من الفتن.
ثانيًا: شرط الهجرة:
شرط الهجرة الحقة أن تكون لله تعالى ابتغاء الأجر وطلباًِ للثواب ورفعة للدين، وينبغى أن تجرد النوايا من كل عرض دنيوى كالرغبة في المال أو الزواج أو الجاه؛ ولذا قال النبي صلى الله عليه وسلم: "إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى، فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله ومن كانت هجرته إلى دنيا يصيبها أو امرأة ينكحها فهجرته إلى ما هاجر إليه"، وقد رُوي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنه في قوله: (إِذَا جَاءَكُمْ الْمُؤْمِنَاتُ مُهَاجِرَاتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ). قال: كانت المرأة إذا أتت النبي– صلى الله عليه وسلم– حلفها بالله ما خرجت من بغض زوج، وبالله ما خرجت رغبةً بأرضٍ عن أرض، وبالله ما خرجت التماس دنيا، وبالله ما خرجت إلا لله ورسوله" (6).
والهجرة تحت أي مسمى غير ابتغاء الأجر ونصرة الدين لا بد أن يكشف أصحابها حتى يميزوا عن المخلصين من المهاجرين. فيعرف فلان أنه مهاجر المال، وآخر مهاجر الزوجة، وآخر مهاجر السلطة.
وقد روى وكيع في كتابه عن الأعمش عن أبي وائل عن ابن مسعود قال: كان فينا رجل خطب امرأة يقال لها أم قيس فأبت أن تتزوجه حتى يهاجر فهاجر فتزوجها، فكنا نسميه مهاجر أم قيس، قال ابن مسعود: "مَن هاجر لشيء فهو ".
ثالثًا: أنواع الهجرة:
ومن التعريف اللغوي السابق يستطيع أن تقسم الهجرة إلى نوعين لا ثالث لهما:
الأول: الانتقال من مكان إلى مكان، ويشمل:
* الهجرة إلى النبي صلى الله عليه وسلم في المدينة، وهي أشرف الهجرات وأفضلها.
* الهجرة من دار الكفر على دار الإسلام، وهذا يختلف حكمها باختلاف الأوضاع.
* هجرة أهل الذنوب والمعاصي وأهل الأهواء والبدع.
* الهجرة إلى الشام في آخر الزمان عند ظهور الفتن فعن عبد الله بن عمرو قال: سمعت رسول الله– صلى الله عليه وسلم– يقول: "ستكون هجرة بعد هجرة فخيار أهل الأرض ألزمهم مهاجر إبراهيم ويبقى في الأرض شرار أهلها" (7).
الثاني : الهجرة إلى الله تعالى ورسوله وهى حقيقة الهجرة ومقصودها وهى تتضمن :
* هجرة القلب من محبة غير الله إلى محبته ومن عبودية غيره إلى عبوديته، ومن خوف غيره ورجائه والتوكل عليه إلى خوف الله ورجائه والتوكل عليه، ومن دعاء غيره وسؤاله والخضوع له والذل والاستكانة له، وهذا بعينه معنى الفرار إليه تعالى قال تعالى: (فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ (50)) (الذاريات).
* الهجرة لرسول الله صلى الله عليه وسلم وتكون باتباع سننه وتحكيمها والتحاكم إليها وتقديمها على جميع الأهواء والآراء والأذواق ونبذ البدع والمحدثات التي نهى عنها الإسلام.
وهجر القلب إلى الله بالتسليم والتوكل والخضوع والهجرة إلى الرسول بالاتباع الكامل هما ما يدفعان المسلم إلى ترك دار الكفر والتحول إلى دار الإسلام، وترك الأوطان والإقلاع من الأموال والأولاد والتضحية بكل هذا من أجل الله ورسوله ودينه.
رابعًا: الثناء على المهاجرين
لما كانت الهجرة حدثًا فارقًا في حياة الأمم فقد نقل الجماعة المسلمة من مرحلة الدعوة إلى مرحلة الدولة؛ لذا كانت الهجرة الأولى إلى دار الإسلام الأولى المدينة المنورة واجبة على كل مسلم آمن بالله ورسوله لا يكتمل إسلامه ولا تسلم عقيدته إلا بالرحيل إلى رسول الله والانطواء تحت لوائه.
ومن أجل أن يكون للمسلمين كيان قوى ودولة فتية ويصبحوا أمةً عظيمة، سلك القرآن الكريم والسنة النبوية أسلوب الترغيب والثناء، وبيان الفضل لمَن هاجر والترهيب والوعيد لم قعدت به همته وضعف عزيمته عن اللحاق برسول الله والفرار إليه.
أولاً: فضل المهاجرين:
- أهل لرحمة الله تعالى: قال تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُوْلَئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَةَ اللَّهِ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (218)) (البقرة)، فقد وصفهم الله تعالى في الآية الكريمة بثلاث صفات بالإيمان والهجرة، وهي مفارقة المألوف والمحبوب لرضا الله تعالى فالمهاجر يترك وطنه وأمواله وأهله وخلانه تقرباً إلى الله ونصرة لدينه.
الجهاد وهو بذل الجهد في مصارعة الأعداء وقمع دين الشيطان وهو ذروة الأعمال الصالحة وحقيق بمن كان هذا حاله أن يكون من الراجين رحمة الله فقد أتى بالسبب الموجب للرحمة. وإنما قال يرجون وقد رحمهم لأنه لا يعلم أحد في هذه الدنيا أنه صائر إلى الجنة ولو بلغ في طاعة الله كل مبلغ لأمرين أحدهما:
لا يدرى بما يختم له والثاني: لئلا يتكل على عمله فهؤلاء قد غفر الله لهم ومع ذلك يرجون رحمة الله.
2- أهل لمغفرته وتكفير سيئاتهم ومحو ذنوبهم: قال تعالى: (فَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَأُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأُوذُوا فِي سَبِيلِي وَقَاتَلُوا وَقُتِلُوا لأكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلأدْخِلَنَّهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ ثَوَابًا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الثَّوَابِ (195)) (آل عمران).
وإضافة الثواب إلى الله ونسبته إليه يدل على عظمته فالله لا يعطي إلا جزيلاً كثيرًا، وقد اعتبر النبي صلى الله عليه وسلم الهجرة عملاً ضخمًا يستحق صاحبه محو جميع معاصيه، وأنها تتضاءل وتتصاغر إزاء هذا العطاء الكبير فقال لعمرو بن العاص: أما علمت أن الإسلام يهدم ما كان قبله، وأن الهجرة تهدم ما كان قبلها، وأن الحج يهدم ما كان قبله.
وعن جابر أن الطفيل بن عمرو الدوسي أتى الني صلى الله عليه وسلم – فقال : يا رسول الله هل لك في حصن حصين ومنعة ؟ قال : حصن كان لدوس في الجاهلية، فأبى ذلك النبي – صلى الله عليه وسلم – للذي ذخر الله للأنصار.فلما هاجر النبي – صلى الله عليه وسلم – للمدينة هاجر إليه الطفيل بن عمرو وهاجر معه رجل من قومه فاجتووا في المدينة فمرض فجزع فأخذ مشاقص له فقطع بها براجمه فشخبت يداه حتى مات فرآه الطفيل بن عمرو في منامه وهيئته حسنة، ورآه مغطياً يديه فقال له : ما صنع ربك بك؟ فقال غفر لي بهجرتي إلى نبيه – صلى الله عليه وسلم" (8)
3- أهل للقدوة لأنهم أهل السبق في الجهاد والهجرة. قال تعالى: (وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنْ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (100)) (التوبة).
فالسبق بالهجرة وترك الوطن والمال على الفور استجابة للنداء الإلهي يجعلهم أهلاً لأن يقتدي بهم من جاء بعدهم ويتأس بهجرتهم وجهادهم إخوانهم من أهل الإيمان. فالمهاجرون الأولون هم رؤساء المسلمين وسادتهم. وقد نوه النبي– صلى الله عليه وسلم – أن الأحق بالإمامة في الدين والأجدر في قيادة الناس في عبادتهم وجهادهم السابقون في الهجرة، فقال – صلى الله عليه وسلم -: "يؤم القوم أقرؤهم لكتاب الله فإن كانت قراءتهم سواء فليؤمهم أقدمهم هجرة فإن كانوا في الهجرة سواء فليؤمهم أكبرهم سنًّا" (9).
4- لقد وعد الله تعالى المهاجرين بسعة في الرزق وتمكين في الدين تعويضًا لهم عما فقدوه من الأموال والأوطان، قال تعالى: (وَالَّذِينَ هَاجَرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ قُتِلُوا أَوْ مَاتُوا لَيَرْزُقَنَّهُمْ اللَّهُ رِزْقًا حَسَنًا وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ (58)) (الحج).
وقال أيضًا: (وَمَنْ يُهَاجِرْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يَجِدْ فِي الأَرْضِ مُرَاغَمًا كَثِيرًا وَسَعَةً وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهَاجِرًا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا (100)) (النساء).
قال ابن كثير – رحمه الله – هذا تحريض على الهجرة وترغيب في مفارقة المشركين وأن المؤمن حيثما ذهب وجد عنهم مندوحة وملجأ يتحصن فيه. فالله وعد المهاجر بالسعة في الرزق وبالفرج بعد الضيق والتمكين في الأرض بعد التخفي والحصار. وقال أيضًا: (وَالَّذِينَ هَاجَرُوا فِي اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُوا لَنُبَوِّئَنَّهُمْ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً) (النحل: من الآية 41).
5- المهاجرون أهل الجنة الأولون الفائزون الخالدون فكما كانوا سابقين في هجرتهم وجهادهم فهم أيضاً أصحاب الدرجة الرفيعة والمنزلة العالية لا يقدمهم إلى رضوان الله والجنة أحد مهما علا شأنه قال تعالى: (الَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ أَعْظَمُ دَرَجَةً عِنْدَ اللَّهِ وَأُوْلَئِكَ هُمْ الْفَائِزُونَ (20) يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُمْ بِرَحْمَةٍ مِنْهُ وَرِضْوَانٍ وَجَنَّاتٍ لَهُمْ فِيهَا نَعِيمٌ مُقِيمٌ (21) خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ (22)) (التوبة).
وفي إيضاح هذه المنزلة يقول النبي صلى الله عليه وسلم لعبد الله بن عمرو بن العاص: "أتعلم أول زمرة تدخل الجنة من أمتي؟ قال: الله ورسوله أعلم، قال: "المهاجرون يأتون يوم القيامة إلى باب الجنة ويستفتحون فيقول الخزنة أو قد حوسبتم؟ فيقولون: بأي شيء نحاسب؟ وقد كانت أسيافنا على عواتقنا في سبيل الله حتى متنا على ذلك، قال: فيفتح لهم فيقيلون فيه أربعين عامًا قبل أن يدخلها الناس"(10).
ثانيا: الوعيد والتهديد لمن لم يهاجر:
1- لقد توعد الله تعالى المسلمين الذين امتنعوا عن الهجرة والفرار بالدين وبالعقاب الأليم ونعتهم بأبشع وصف وهو ظلم النفس.
2- فقال تعالى: "إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلآئِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُواْ فِيمَ كُنتُمْ قَالُواْ كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الأَرْضِ قَالْوَاْ أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُواْ فِيهَا فَأُوْلَـئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءتْ مَصِيرًا" (النساء: من الآية 97)، وسبب نزول هذه الآية الكريمة كما ذكر ابن جرير الطبري عن ابن عباس أنه قال: "كان قوم من أهل مكة أسلموا وكان يستخفون بالإسلام فأخرجهم المشركون يوم بدر فأصيب بعضهم فقال المسلمون: كان أصحابنا هؤلاء مسلمين وأكرهوا فاستغفروا لهم فنزلت: "إن الذين توفاهم الملائكة..."، قال: فكتب إلى من بقي بمكة من المسلمين بهذه الآية لا عذر لهم قال: فخرجوا فلحقهم المشركون وأعطوهم الفتنة فنزلت: "9 وَمِنَ النَّاسِ مَن يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ فَإِذَا أُوذِيَ فِي اللَّهِ جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذَابِ اللَّهِ.... " (العنكبوت:10).
3- فكتب المسلمون إليهم بذلك فحزنوا وأيسوا من كل خير ثم نزل فيهم " ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ هَاجَرُواْ مِن بَعْدِ مَا فُتِنُواْ ثُمَّ جَاهَدُواْ وَصَبَرُواْ إِنَّ رَبَّكَ مِن بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ" (النحل:109).
ولقد كان لهذا العتاب أثره البالغ على من لم يهاجر ودفع بعضهم إلى الهجرة رغم كبر السن وشدة المرض، ولم يروا عذرًا لأنفسهم في القعود في دار الشرك ولم يبحثوا عن رخصة يركنوا إليها فهذا جندب بن خمرة الجندعي لما نزلت الآية: "إن الذين توفاهم الملائكة" قال: اللهم أبلغت في المعذرة والحجة ولا معذرة لي ولا حجة ثم خرج وهو شيخ كبير فمات ببعض الطريق فقال أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم مات قبل أن يهاجر فلا ندري أعلى ولاية أم لا؟ فنزلت " وَمَن يَخْرُجْ مِن بَيْتِهِ مُهَاجِرًا إِلَى اللّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلى اللّهِ" (النساء:100) (11).
خامسًا: الهجرة سنة من قبلك من رسلنالم تكن هجرة النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة بدعا وحدثًا غير مسبوق بل كانت حلقة في تاريخ الدعوات الصادقة والنبوت الفاضلة.
فالأنبياء والمصلحون يأبون، أن يعيشوا حياة الضيم ويرضوا بالواقع الذليل ويقبعوا في جو تعد فيه الأنفاس وتحصى فيه الكلمات؛ لأن لهم طبيعة جبلت على الحرية وعشقت الانطلاق والحركة، كما أنهم أصحاب رسالة ودعوة وفي أعناقهم أمانة وفكرة.
والقيد والظلم يمنعهم من تبليغ الأمانة وتوصيل الرسالة وإنقاذ البشرية من شركها وهدايتها من حيرتها.
فكان لا بد من الهجرة والارتحال والبحث عن نفوس تقبل الإيمان وعقول تتفهم الإسلام ولنضرب على ذلك بثلاثة أمثلة:
1- الخليل إبراهيم عليه السلام: إني ذاهب إلى ربى سيهدين.
منذ نشأ في العراق حيث كان قومه يعبدون الأصنام ولم تفلح دعوته في عودتهم إلى توحيد الله تبارك وتعالى ولم يؤمن إلا نفر قليل منهم ولم يجد آذانًا صاغية وقلوبًا واعية بل وجد صدودًا وإعراضًا ونال الخليل إبراهيم من الإيذاء ما لم ينله أحد حتى أنهم أوقدوا نارًا عظيمة وألقوه فيها فأنجاه الله منها: " قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلَامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ" (الأنبياء: 69).
وبعد هذه الحادثة كانت هجرته هو وزوجته سارة وابن أخيه لوط الذي آمن بدعوته إلى الشام قال تعالى: " فَآمَنَ لَهُ لُوطٌ وَقَالَ إِنِّي مُهَاجِرٌ إِلَى رَبِّي إِنَّهُ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ" (العنكبوت:26) وبعث الله تعالى لوطًا رسولاً إلى أهل سدوم في أطراف الأردن، وبسبب هذه الهجرة المباركة رزق الله تعالى الخيل الذرية الصالحة وجعل النبوة في عقبه من بعده قال تعالى: " وَنَجَّيْنَاهُ وَلُوطًا إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا لِلْعَالَمِينَ 71 وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَقَ وَيَعْقُوبَ نَافِلَةً وَكُلًّا جَعَلْنَا صَالِحِينَ 72 وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْرَاتِ وَإِقَامَ الصَّلَاةِ وَإِيتَاء الزَّكَاةِ وَكَانُوا لَنَا عَابِدِينَ " (الأنبياء:71،72،73).
وكانت الهجرة الثانية إلى مصر بعد أن أصاب الشام قحط شديد ومجاعة كبيرة. وكانت معه زوجته سارة.
وكانت الهجرة الثالثة؛ حيث أخذ إبراهيم زوجته الثانية هاجر ورضيعها إسماعيل إلى مكة فتركهما هناك وعاد بعد أن دعى لهما بدعوة طيبة قال تعالى: " رَّبَّنَا إِنِّي أَسْكَنتُ مِن ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِندَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُواْ الصَّلاَةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِّنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُم مِّنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ" (إبراهيم:37).
وهكذا كانت حياة الخليل المديدة هجرة وترحال ودعوة وجهاد ومفارقة للأوطان وعشقًا للسفر في سبيل الله تعالى: " إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا لِلّهِ حَنِيفًا وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ" (النحل:120).
المثال الثاني: موسى عليه السلام: فخرج منها خائفًا يترقب، وكانت هجرته الأولى يوم أن أخبر أن مؤامرة تدار في قصر فرعون لقتله ثأرًا للرجل المصري الذي وكزه موسى فقضى عليه، فخرج من مصر خائفًا إلى صحراء مدين طالبًا للنجاة من القتل، ومكث هناك عشر سنين.
قال تعالى: " وَلَمَّا تَوَجَّهَ تِلْقَاء مَدْيَنَ قَالَ عَسَى رَبِّي أَن يَهْدِيَنِي سَوَاء السَّبِيلِ" (القصص:22).
وكانت الهجرة الثانية من مصر أيضًا فرارًا بمن آمن معه إلى سيناء من فرعون وجنوده وقد نجاه الله تعالى وأغرق آل فرعون: " وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنْ أَسْرِ بِعِبَادِي إِنَّكُم مُّتَّبَعُونَ" (الشعراء:52) المثال الثالث: أهل الكهف: " فَأْوُوا إِلَى الْكَهْفِ يَنشُرْ لَكُمْ رَبُّكُم مِّن رَّحمته ويُهَيِّئْ لَكُم مِّنْ أَمْرِكُم مِّرْفَقًا" (الكهف:16).
فهؤلاء الفتية الذين آمنوا بالله الواحد القهار وأبوا أن يشركوا معه غيره ولم يجدوا ما ينقذهم من القتل المحقق والحفاظ على دينهم وعقيدتهم إلا مفارقة القوم الظالمين والفرار إلى المغارة والهجرة إلى الله تعالى الذي حبب إليهم الكهف المظلم الموحش القفر إلى مكان تنتشر فيه الرحمة وتملأه السكينة قال تعالى: " وَإِذِ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ فَأْوُوا إِلَى الْكَهْفِ يَنشُرْ لَكُمْ رَبُّكُم مِّن رَّحمته ويُهَيِّئْ لَكُم مِّنْ أَمْرِكُم مِّرْفَقًا"(الكهف:16).
سادسًا: حظنا من الهجرة.
تظل الهجرة ذات مدلول واسع وعطاء كبير يتجدد مع كل زمان، كل يأخذ منه بحظ وافر، وأما حظنا اليوم فهو:
1- لا بد أن يعتقد المسلم أن الهجرة المكانية باقية إلى يوم القيامة، وأنه يرفض حياة الذل ويأبى مقام القيد والسجن، وأن الاحتفاظ بدينه وعقيدته أعز عنده وأكرم من البقاء في وطن لا يستطيع أن يقيم شعائر ربه ولا يملك فيه حريته ولا يأمن فيه على نفسه وماله.
2- أن يكون المسلم جاهزًا للهجرة من أجل نجدة إخوانه وتخليصهم من قيد الأسر والحصار فالهجرة والجهاد صنوان وتبقى الهجرة ما بقى الجهاد، وقد روى ابن حجر العسقلاني في الإصابة (1/245)، عن أبي الخير أن عبادة بن أبي أمية حدثه أن رجالاً من الصحابة قال بعضهم: إن الهجرة قد انقطعت فاختلفوا في ذلك فانطلقت إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: إن الهجرة لا تنقطع ما كان الجهاد" وإن واجب الهجرة اليوم يتطلب من كل مؤمن نفرة إلى أرض الأقصى الأسير لإنقاذه من يراشن اليهود ودعم أهل فلسطين في جهادهم ومناصرتهم لتحرير أرضهم وحفظ مقدساتهم، وإطعامهم جائعهم وكسوة عاريهم وإقامة دولتهم من النهر إلى البحر ونيل حقوقهم كما نص عليها الدين والقانون.
وقد روى ابن حجر العسقلاني في هداية الرواة 5/497، وحسنه عن عبد الله بن عمرو العاص قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إنها ستكون هجرة بعد هجرة إلى مهاجر إبراهيم عليه السلام وفي رواية فخيار أهل الأرض ألزمهم مهاجر إبراهيم ويبقى في الأرض شرار أهلها تلفظهم أرضوهم وتقذرهم نفس الله تحشرهم النار مع القردة والخنازير تبيت معهم إذا باتوا وتقيل معهم إذا قالوا" (12)، ومعلوم أن مهاجر إبراهيم هي أرض الشام أرض الرباط والجهاد.
3- هجرة أهل الكفر والفسق إن هم عاندوا وأصروا بعد الدعوة والبيان، قال تعالى: "وَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَاهْجُرْهُمْ هَجْرًا جَمِيلًا".
وأيضا قوله تعالى: " يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ 1 قُمْ فَأَنذِرْ 2 وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ 3 وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ 4 وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ " (المدثر:5، 4، 3، 2، 1).
4- الحذر من هجرة كتاب الله تعالى قراءة وفهم وتدبرًا وحفظًا وعملاً وتخلقًا حتى لا يكون ممن قيل فيهم: " وَقَالَ الرَّسُولُ يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآنَ مَهْجُورًا" (الفرقان:30).
5- وليحذر المسلم من هجر ما وصى الله بوصله فلا يهجر أخاه فوق ثلاث فعن عبد الله بن عمر وأنس بن مالك قالا: "نهى رسول الله أن يجاوز بالهجرة في الكلام ثلاثًا"(13).
6- أن يعظم المسلم في نفسه أحداث الهجرة الأولى ويوقر ويدعوا للمهاجرين الأولين بكل خير. "9 وَالَّذِينَ جَاؤُوا مِن بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِّلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ" (الحشر:10).
7- كما يقتدي بجهادهم وثباتهم وحبهم لدينهم وإيثاره على ما عداه من الأوطان والأموال والأولاد.
هذا وبالله التوفيق.
----------------
* الهوامش:
1 - المعجم الوسيط ج2 ص 868
2 - التوقيف على مهمات التعريف ص 738
3- فتح الباري ج11 ص 263
4 - التعريفات ج1 ص82
5- البخاري انظر فتح الباري ج1 ص53
6- أخرجه ابن أبى حاتم وابن جرير والبزار
7 - أخرجه أبو داوود رقم 2482 ، حسنه الألباني في تخريج مناقب الشام وأهله صـ 79.
8- رواه مسلم رقم 121
9 - رواه مسلم.
10- رواه الحاكم جـ2/70 بسند صحيح ووافقه الذهبي
11 - تفسير ابن جرير جـ4 صـ239.
12- رواه أبو داوود في سننه وصححه الألباني "رقم 3213 "
13 - رواه البيهقي في السنن الصغير
مقال 3
الهجرة.. وبناء الدولة
رسالة من: أ.د. محمد بديع المرشد العام للإخوان المسلمين
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله ومَن والاه وبعد،
حينما وصل رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة المنورة- مهاجرًا من مكة المكرمة- اُستقبِل منذ اللحظة الأولى ليكون إمامًا لأمة، وحاكمًا لشعب، وقائدًا لنهضة، ومؤسسًا لحضارة، إنسانية رفيعة تستمد كل مقوماتها من منهج السماء.. لإنقاذ البشرية كلها وإخراجها من الظلمات إلى النور.
نعم ظلَّت دعوته الأصلية قائمة واضحةً جلية (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا (٤٥) وَدَاعِيًا إِلَى اللَّـهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجًا مُنِيرًا (٤٦)) (الأحزاب).. نبيًّا يُوحَى إليه، ورسولاً يُبلِّغ رسالة ربه.. وأُضيف إليها في المدينة المنورة (إِنَّا أَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّـهُ وَلاَ تَكُن لِّلْخَائِنِينَ خَصِيمًا (١٠٥)) (النساء)، (وَأَنِ احْكُم بَيْنَهُم بِمَا أَنزَلَ اللَّـهُ وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَن يَفْتِنُوكَ عَن بَعْضِ مَا أَنزَلَ اللَّـهُ إِلَيْكَ..) (المائدة: من الآية 49)، (فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مَمَا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا (٦٥)) (النساء)، (أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّـهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ (٥٠)) (المائدة).
لقد آن للنظرية أن تتحقق، وللمنهج أن يُطبَّق، وللدعوة المباركة أن تتحول إلى دولةٍ رشيدةٍ، بكل مقومات الدولة الصحيحة.. لتُخرج للحياة (خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ..) (آل عمران: من الآية 110)، ولتخرج للبشرية النموذج الصحيح للحياة والإنسانية التي يرضاها رب العزة لخلقه (اليَومَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلَامَ دِينًا) (المائدة: من الآية 3) (فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُم مِني هُدًى فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلاَ يَشْقَى (١٢٣)) (طه).
وليس أدل على ذلك إلا الاستقبال الحبيب من أهل المدينة لرسول الله صلى الله عليه وسلم بعد طول انتظار وترقب وشوق.. بهذا النشيد الخالد الذي سجَّله التاريخ بأحرفٍ من نور، وردده الكون كله مع رجال ونساء وفتيان المدينة:
طلع البدر علينا... من ثنيات الوداع
وجب الشكر علينا... ما دعا لله داع
أيها المبعوث فينا ... جئت بالأمر المطاع
إذن.. هو الأمر المطاع والدستور الحاكم، والقانون المتبع، والمنهج المستحب.. هو الشريعة المنظمة لكل شئون الحياة (ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِنَ الْأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ (١٨)) (الجاثية).
أول كلماتٍ قالها الرسول العظيم صلى الله عليه وسلم وسمعها منه أهل المدينة عن بكرة أبيهم: "أيها الناس أفشوا السلام، وأطعموا الطعام، وصِلوا الأرحام، وصَلّوا بالليل والناس نيام تدخلوا الجنة بسلام".
- فأما إفشاء السلام.. فمعناه إشاعة الأمن والأمان؛ فلا يقوم مجتمع ولا تنهض أمة، ولا تنشأ حضارة، ولا يُبدع إنسان.. إلا في ظل الأمن والأمان "كل المسلم على المسلم حرام.. دمع وماله وعرضه".
- وأما إطعام الطعام: فمعناه توفير الاحتياجات الأساسية لكل أفراد المجتمع، فما ينبغي أن يجوع في المجتمع المسلم أي إنسان- بل حتى الحيوان-.. لأن المجتمع كله يأثم شرعًا بذلك "ليس منا مَن باتَ شبعان وجاره جائع وهو يعلم"، ولا تنفع صلاة ولا عبادة إلا بأداء حق الضعفاء والمحتاجين (وَالَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَّعْلُومٌ (٢٤) للسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ (٢٥)) (المعارج)، (أَرَأَيْتَ الَّذِي يُكَذِّبُ بِالدِّينِ (١) فَذَٰلِكَ الَّذِي يَدُعُّ الْيَتِيمَ (٢) وَلاَ يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ (٣) فَوَيْلٌ لِّلْمُصَلِّينَ (٤) الَّذِينَ هُمْ عَن صَلاتِهِمْ سَاهُونَ (٥) الَّذِينَ هُمْ يُرَاءُونَ (٦) وَيَمْنَعُونَ الْمَاعُونَ (٧)) (الماعون).
- وأما صلة الأرحام: فهي تقوية للوشائج الإنسانية، وتدعيم للروابط الاجتماعية، التي بدونها تفقد الحياة أجمل معانيها.. إن الأهل والعشيرة والقرابة والرحم والنسب والمصاهرة تمثل كلها سياجًا عاطفيًّا يعيش فيها المجتمع الحاضر وتنمو فيها الأجيال الجديدة في جوٍّ من الحبِّ والترابط والتعاطف والتآلف.
- وأما الصلاة بالليل والناس نيام.. فهي ميزة الحضارة الإسلامية الرفيعة السامقة إنها حضارة مرتبطة بالله تعالى.. تستمد منه العون والهدى (إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ (٥)) (الفاتحة)، تذوق من خلالها نعمة الاطمئنان (أَلاَ بِذِكْرِ اللَّـهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ (٢٨)) (الرعد) (بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ) (سبأ: من الآية ١٥)، تطمئن على الحاضر القريب والمستقبل البعيد، على البداية والنهاية والخلود (وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّـهِ) (البقرة: من الآية ٢٨١)، (يَا أَيُّهَا الْإِنسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحًا فَمُلَاقِيهِ (٦)) (الانشقاق)، فليس بالطعام فقط يحيا الإنسان.. إن هناك جوعة روحية وظمأ قلبيًّا لا يشبعها إلا الصلة الوثيقة برب الأرض والسماء.
كانت أولى خطواته العملية صلى الله عليه وسلم بناء المسجد وإصلاح السوق.
- بناء المسجد: ليكون المنطلق لبناء الإنسان الصالح والمجتمع الصالح رجالاً ونساءً.. صغارًا وكبارًا، وتتحول إحدى الصلوات المفروضة إلى صلاة جامعة يوم الجمعة.. نصفها بيان وإرشاد، وتفصيل وتوضيح ومناقشة لكل ما يهم المجتمع في حاضره ومستقبله.. "من لم يهتم بأمر المسلمين فليس منهم"، ونصفها الآخر عبادة مختصرة في ركعتين فقط تربط الصف المؤمن بخالقه ومنشئه وراعيه.
- وأما إصلاح السوق: لتنتعش الحياة الاقتصادية وترتقي المعاملات المادية، فلا يحتكر القوتَ محتكرٌ، ولا يتحكم في أقوات الناس وأسعار السلع أصحاب الأغراض وأغنياء الحرب ومنتهزو الأزمات.
وكان من أعظم وأهم خطوات البناء لإقامة الدولة الرشيدة تلك المؤاخاة العجيبة التي جمعت أشتات المجتمع الإنساني كله على اختلاف الأجناس والانتماءات.
- كان قد آخى- قبل الهجرة- بين أبي بكر العربي القرشي وصهيب الرومي وبلال الحبشي وسلمان الفارسي.. كلهم إخوة في الله وشركاء في الحياة.
- ومع وصوله للمدينة آخى بين الأوس والخزرج، وقد كانا فريقين مختلفين متنازعين بينهما حروب وعداوات رغم وجودهما في مدينةٍ واحدة.
- ثم آخى بين المهاجرين والأنصار في إطارٍ من الحب العظيم (ما نزل مهاجري على أنصاري إلا بقرعة)، على عكس ما يحدث في تاريخ الهجرات الكبيرة حتى سجَّلها القرآن الكريم كنموذجٍ فريدٍ غير مسبوقٍ للسماحة الإنسانية حين يحدوها الإيمان بالله (وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالإِيمَانَ مِن قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلاَ يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مَمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (٩)) (الحشر).
- ثم أعلنها مؤاخاةً إنسانيةً جامعةً تجمع حتى المخالفين في الدين والعقيدة، فعقد المعاهدة تلو المعاهدة مع يهود المدينة، وأعلن الميثاق الخالد الذي تشرف به الإنسانية "لهم ما لنا وعليهم ما علينا".. غير أن اليهود بادلوه بالغدر والخديعة ونقض العهود وإشعال الحروب.
- استقبل وفود العالم وراسل قادة الأمم ودعاهم إلى مبادئ إنسانية عالية، مذكرًا إيَّاهم بعهدهم مع أنبيائهم ووصايا الأنبياء السابقين إليهم.
هذه هي الخطوات المباركة لرسول الله صلى الله عليه وسلم لبناء أعظم دولةٍ عرفها العالم وشهد لها التاريخ.. وهي الخطوات التي نترسمها الآن ونحن نعيد بناء أمتنا من جديدٍ بعد عقود من التيه والضياع.. نعود لنستلهم من رسول الله صلى الله عليه وسلم في هجرته الشريفة وإقامة دولته الفريدة عبقرية البناء.. المؤيدة بوحي السماء.
والله أكبر ولله الحمد.
سيد الرسل محمد، صلى الله عليه وسلم، وهو يعلن بكل وضوح، ويؤكد بلا أدنى شك أن الناس سواسية، وكلهم يخضعون للقانون والشرعية، لا فرق
مقال 4
أحداث سبقت الهجرة.. ودروس مستفادة
بقلم: د. جمال حامد محمد
الهجرة من سنن الأنبياء عليهم السلام، والهجرة النبوية تتعلق بترك الوطن إلى موطن آخر ابتغاء مرضاة الله. حاول سادة قريش صرف سيدنا محمد (ص) عن دعوته والوقوف في وجه هذه الدعوة رغم قناعتهم بصدق رسالته. ومن ثم استخدموا كل أساليب الإغراء والتهديد والتكذيب والإيذاء له ولأتباعه والحصار الاقتصادي والاجتماعي. وكان لا بد أن تجد الدعوة حاضنة لها في بلد آخر، ومن ثم كانت الهجرة، فترك المهاجرون أموالهم ومساكنهم وتحملوا المشاق فرارًا بدينهم. ويعتبر المهاجرون أهل السبق في تأسيس دولة الإسلام. وتعتبر هجرته صلى الله عليه وسلم حدثًا مفصليًّا في أسبابه ودلالته وآثاره. والمقال الحالي يتناول بعض الأحداث السابقة للهجرة من زاوية التجهيز والتخطيط للهجرة، ومن ثم نؤكد على بعض الدروس المس
بقلم: د. مصطفى شلبي
الحمد لله الذي لا يفسد عمل المصلحين ولا يصلح عمل المفسدين، الحمد لله القائل: (لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنْ اللَّهِ وَرِضْوَانًا وَيَنْصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَئِكَ هُمْ الصَّادِقُونَ (8))(الحشر).
وسبحانه وتعالى القائل: (إِلاَّ تَنصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا فَأَنزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (40)) (التوبة).
وسبحانه القائل: (إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ فَلا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ)(التوبة: من الآية 36).
وقد فصّل النبي صلى الله عليه وسلم ما أجمله القرآن، وبيَّن أن هذه الأشهر هي: رجب، وذو القعدة، وذو الحجة، ومحرم، قال صلى الله عليه وسلم: "إن الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق الله السموات والأرض، السنة اثنا عشر شهرًا، منها أربعة حرم، ثلاث متواليات: ذو القعدة وذو الحجة والمحرم، ورجب مضر الذي بين جمادى وشعبان".
وأكَّد النبي صلى الله عليه وسلم حرمة شهر ذي الحجة، فقال في حجة الوداع: "أي شهر هذا؟" قالوا: الله ورسوله أعلم، قال: "شهر حرام"، قال: "فإن الله حرَّم عليكم دماءكم وأموالكم وأعراضكم كحرمة يومكم هذا، في شهركم هذا، في بلدكم هذا"
وهذه الأشهر يحرم فيها القتال، كما يضاعف فيها الحسنات وتضاعف السيئات كما تغلظ دية القتيل فيها.
وقد شاءت إرادة الله أن تجري الانتخابات المصرية في شهرين من هذه الأشهر الحرم ذي الحجة والمحرم، فلنتذاكر جميعًا حرمة هذه الأيام، ولنعلم أن من تقوى القلوب تعظيم ما حرم الله، فلنتقي الله في أعراض بعضنا البعض، ولنتقي الله في دماء بعضنا البعض، ولا يسيغ أحد لنفسه الخوض في عرض أحد من أجل التنافس على مقعد نيابي.
وها نحن اليوم نعيش في أحد هذه الأشهر الحرم، وهو شهر الله المحرم هذا الشهر الذي نتذاكر فيه مشهد عظيم من مشاهد سيرة المصطفى صلى الله عليه وسلم ومرحلة مفصلية من حياة أمة التوحيد.
ولبيان خطورة هذه المرحلة وهذه المناسبة اختارها صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلى رأسهم عمر بن الخطاب لبداية التأريخ للمسلمين.
يروى في كتب السير والتاريخ أنه في السنة السابعة عشرة للهجرة كتب الخليفة الثاني عمر بن الخطاب رضي الله عنه إلى أبي موسى الأشعري عامله على البصرة وذكر في كتابه شهر شعبان فرد أبو موسى الأشعري أنه يأتينا من أمير المؤمنين كتب ليس فيها تاريخ، وقد قرأنا كتابًا محله شعبان، فما ندري أهو شعبان الذي نحن فيه أم الماضي.
فجمع الخليفة عمر الصحابة وأخبرهم بالأمر، وأوضح لهم لزوم وضع تاريخ يؤرخ به المسلمون، فأخذوا في البحث عن وقعة تكون مبدأ للتاريخ المقترح، فذكروا ولادته صلى الله عليه وآله وسلم ومبعثه ووفاته، لكن الإمام علي بن أبي طالب رضي الله عنه أشار بجعله يوم هجرة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم من مكة إلى المدينة، فراقت الفكرة للخليفة عمر وسائر الصحابة فأرخوا بها.
واختيار الصحابة رضوان الله عليهم الهجرة وتفضيلها عن مناسبات عظيمة مثل تاريخ مولده صلى الله عليه وسلم أو تاريخ بعثته أو تاريخ بدر أو أحد أو وفاته صلى الله عليه وسلم دليل على أهمية حدث الهجرة؛ وذلك لأنه تاريخ تأسيس الدولة في المدينة، فأصبح للمسلمين دولتهم على رأسها رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولها دستورها المدني، أول دستور عرفته البشرية، وهو دستور المدينة، وبدأ النبي صلى الله عليه وسلم تأسيس الدولة ببناء المسجد الذي سيربي فيه أعظم ما تمتلكه الدولة من موارد، ألا وهي الموارد البشرية، ثم كان إنشاء السوق لتكون بديلاً لسوق اليهود التي كانت تدار بالغش والتدليس والربا، فاعتمد النبي صلى الله عليه وسلم سياسة تقديم البديل الاقتصادي الصحيح القائم على الأمانة والقسط، ثم كان تأسيس الجيش الحامي لهذه الدولة.
وهذا يضع أيدينا على أهمية وجود الدولة ومؤسساتها، ونحن اليوم أحوج ما نكون لإعادة وبناء مؤسسات الدولة بصورة شرعية صحيحة، وبأقصى سرعة فتلك مصلحة الشعب كله بجميع طوائفه وفصائله، إذًا فإجراء الانتخابات لعودة المؤسسة التشريعية والرئاسية والمحليات بأقصى سرعة ليست مصلحة فصيل معين، ولكنها مصلحة الوطن والشعب كله.
ولنقتطف زهرات من هجرته صلى الله عليه وسلم نستنشق عبيرها
1- لما أذن الله سبحانه وتعالى لنبيه بالهجرة، أمر الصحابة بالهجرة ولم يسبقهم بالهجرة إلى دار الأمان بالمدينة، وإنما انتظر الرسول صلى الله عليه وسلم حتى هاجر الصحابة، وظل بين ظهراني الأعداء حتى هاجروا ثم لحق بهم النبي صلى الله عليه وسلم.
وهنا يضرب النبي صلى الله عليه وسلم المثل والقدوة لكل مسئول سيتبوأ منصبًا ما في مصر بعد الثورة، أن يكون في المقدمة حين الفزع والشدة، وليكن في المؤخرة حين المغنم، فعلى يد أمثال هؤلاء القادة يصلح الله البلاد والعباد.
2- لما هاجر النبي صلى الله ودخل المدينة كان عبد الله بن أبي بن سلول سيتوج ملكًا على الأوس والخزرج، فلما جاء النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة المنورة انصرف عنه الناس، فحمل في قلبه حقدًا كبيرًا على الدعوة، فجعل ماله ووقته وجهده هو واتباعه في حرب مع الدعوة.
وهذا ما فعله البعض بعد ثورتنا المصرية المباركة، فبعد أن أوشكوا على التتويج فإذا بثورتنا المباركة وبفضل من الله على مصر وأهلها يحبط مكرهم ويفسد مخططاتهم، فآلو على أنفسهم أن يبذلوا كل غالٍ ونفيس لإقامة ثورة مضادة متمثلة في حالة انفلات أمني، ومحاربة للعودة السريعة لمؤسسات الدولة؛ حتى تشيع حالة الفوضى؛ ليكون الأمل الوحيد لعودتهم لصدارة المشهد من جديد، وكذلك أصحاب الأيديولوجيات الغريبة على الأمة المصرية وهويتها، والذين لم يجدوا قبولاً من شعب مصر ما بعد الثورة أيضًا آلو على أنفسهم بذل المال والجهد للتخطيط والمكر حتى لا يهنأ هذا الشعب العظيم بمكاسب ثورته العظيمة، وليعلم هؤلاء جميعًا أن الله الذي أبطل كيد ومكر عبد الله بن أبي بن سلول سيبطل كيدهم ومكرهم، وسيجعل كيدهم في نحورهم.
3- عبقرية القائد صلى الله عليه وسلم في توظيف الأفراد وفقًا لقدراتهم وإمكانياتهم فها هو علي بن أبي طالب له مهمة تتلاءم مع عمره وشجاعته، وأسماء بنت أبي بكر لها مهمة، وعبد الله بن أبي بكر له مهمة وأبو بكر الصديق رضي الله عنه له مهمة، وخبير الطريق عبد الله بن أريقط له مهمة، وبعد الهجرة وقيام الدولة كان لأبي هريرة مهمة حفظ الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وخالد بن الوليد مهمة قيادة الجيوش حتى كان يصلي بالناس بالسور القصار، وكان يعتذر للصحابة بأن الخروج للجهاد وانشغاله بالقتال في سبيل الله شغله عن حفظ القرآن، وكان لأبي ذر رضي الله عنه مهمة تتفق مع قدراته وإمكاناته، فلما طلب مهمة لا تتناسب مع هذه القدرات ردَّه النبي صلى الله عليه وسلم ونصحه.
فعن أبي ذر الغفاري– رضي الله عنه- قال قلت: يا رسول الله ألا تستعملني؟ قال فضرب بيده على منكبي ثم قال: "يا أبا ذر إنك ضعيف، وإنها أمانة، وإنها يوم القيامة خزي وندامة إلا من أخذها بحقها، وأدى الذي عليه فيها" رواه مسلم
والضعف هنا ليس ضعف الأمانة أو التقوى، ولكنه الضعف الذي لا يتلاءم مع متطلبات الولاية والإمارة.
يقول الإمام ابن تيمية في كتاب "السياسة الشرعية": "إن المعيار الأهم في اختيار الحكام هو (الخبرة) في تولي المناصب و(الكفاءة) وإن هذا أهم من تقديرك لتدينه؛ لأن تدينه لنفسه وكفاءته للناس".
كل هذا يعطينا الدرس في حسن توظيف الأفراد واكتشاف المواهب والقدرات وتوظيفها التوظيف الصحيح وكذلك الاجتهاد في انتقاء واختيار الأفراد المناسبة للوظائف والمهام والولايات المناسبة فالشخص المناسب في المكان المناسب.
4- لما هاجر النبي صلى الله عليه وسلم للمدينة، وكان الأنصار قبيلتين كبيرتين: الأوس، والخزرج، وكانت الحروب لا تنقطع بينهما قبل أن يعتنقوا الإسلام، فصالح الرسول صلى الله عليه وسلم بينهما، ونزع الله من قلوبهم العداوة والكراهية، وحلَّ محلها الحب والمودة والوئام، وبعد أن استقر المهاجرون، وصلح حال الأنصار، بقي أن يندمجوا معًا فيصبحوا أخوة مسلمين، فلا فرق بين مهاجر وأنصاري، لذلك آخى رسول الله صلى الله عليه وسلم بينهم فجعل لكل مهاجر أخًا من الأنصار، فأبو بكر الصديق أخ لخارجة بن زهير، وعمر بن الخطاب أخ لعتبان بن مالك، وعبد الرحمن بن عوف أخ لسعد بن الربيع، ولم تكن الأخوة مجرد كلمة تقال، بل طبقها المسلمون تطبيقًا فعليًّا، فهذا سعد بن الربيع الأنصاري يأخذ أخاه عبد الرحمن بن عوف، ويعرض عليه أن يعطيه نصف ما يملك، ولكن عبد الرحمن بن عوف يشكره ويقول له: بارك الله لك في أهلك ومالك، ولكن دُلَّني على السوق، وذهب عبد الرحمن إليه فربح وأكل من عمل يده. (البخاري).
ولم يقتصر ذلك على سعد بن الربيع بل فعله كثير من الصحابة؛ حتى إنه كان يرث بعضهم بعضًا بناءً على هذه الأخوة، فيرث المهاجر أخاه الأنصاري، ويرث الأنصاري أخاه المهاجر، وظلوا على ذلك حتى جعل الله التوارث بين ذوي الأرحام، وقد أثنى الله-عز وجل- على المهاجرين والأنصار، فقال تعالى: (لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنْ اللَّهِ وَرِضْوَانًا وَيَنْصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَئِكَ هُمْ الصَّادِقُونَ (8) وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الْمُفْلِحُونَ (9)) (الحشر).
إن الذي وحَّد فصائل الأمة فأصبحوا بنعمته إخوانًا يضربون المثل في الحبِّ والفداء والإيثار والتفاني في خدمة بعضهم البعض هو منهج الإسلام، وهو المنهج القادر على توحيد فصائل الأمة؛ لأنه المنهج الخالق للمخلوق، منهج العدالة المطلقة، المنهج الذي تتنزل آياته من فوق سبع سماوات لتبرئة يهودي وإدانة مسلم، كما ورد في سورة النساء (إِنَّا أَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ وَلا تَكُنْ لِلْخَائِنِينَ خَصِيمًا (105) وَاسْتَغْفِرْ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا (106) وَلا تُجَادِلْ عَنْ الَّذِينَ يَخْتَانُونَ أَنفُسَهُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ مَنْ كَانَ خَوَّانًا أَثِيمًا (107) يَسْتَخْفُونَ مِنْ النَّاسِ وَلا يَسْتَخْفُونَ مِنْ اللَّهِ وَهُوَ مَعَهُمْ إِذْ يُبَيِّتُونَ مَا لا يَرْضَى مِنْ الْقَوْلِ وَكَانَ اللَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطًا (108) هَاأَنْتُمْ هَؤُلاءِ جَادَلْتُمْ عَنْهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فَمَنْ يُجَادِلُ اللَّهَ عَنْهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَمْ مَنْ يَكُونُ عَلَيْهِمْ وَكِيلًا (109) وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءًا أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرْ اللَّهَ يَجِدْ اللَّهَ غَفُورًا رَحِيمًا (110) وَمَنْ يَكْسِبْ إِثْمًا فَإِنَّمَا يَكْسِبُهُ عَلَى نَفْسِهِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا (111) وَمَنْ يَكْسِبْ خَطِيئَةً أَوْ إِثْمًا ثُمَّ يَرْمِ بِهِ بَرِيئًا فَقَدْ احْتَمَلَ بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا (112) وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ وَرَحْمَتُهُ لَهَمَّتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ أَنْ يُضِلُّوكَ وَمَا يُضِلُّونَ إِلاَّ أَنفُسَهُمْ وَمَا يَضُرُّونَكَ مِنْ شَيْءٍ وَأَنزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكَانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيمًا (113))(النساء).
إن حالة الفرقة والتشاحن والتنافر والتصارع الذي تعيشه الأمة المصرية بل الأمة العربية والإسلامية نتاج الاحتكام إلى مناهج اشتراكية تارة والمناهج الرأسمالية تارة أخرى، فالحل لتوحيد الصف هو أن نعيش في ظلِّ هذا المنهج ثقافةً وسلوكًا وأخلاقًا، ولنستمع لقول الله عزَّ وجلّ: (وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنْ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (103)) (آل عمران).
مقال 2
حول معنى الهجرة وفضلها وحظنا منها
بقلم: الشيخ أحمد حسنين
عناصر الخطبة:
1- التعريف
2- شرط الهجرة
3- أنواع الهجرة
4- الثناء على المهاجرين
5- الهجرة سنة من قبلك من رسلنا
6- حظنا من الهجرة
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، مَن يهده الله فلا مضلَّ له ومن يضلل فلا هادي له، أشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير.. شهادة عبده وابن عبده وابن أمته ومَن لا غنى به طرفة عين عن رحمته، أشهد أن محمدًا عبد الله ورسوله أرسله الله رحمةً للعالمين فشرح به الصدور، وأنار به العقول، وفتح به أعينا عُميًّا وآذانًا صُمًّا وقلوبًا غُلفًا، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه والتابعين لهم بإحسان وسلَّم تسليمًا كثيرًا.. أما بعد:
فالهجرة في اللغة:
الخروج من أرضٍ إلى أخرى، وانتقال الأفراد من مكانٍ إلى آخر سعيًا وراء الرزق، والمهاجر: الذي هاجر مع النبي وإليه" (1)"والهجر ضد الوصل، والتهاجر التقاطع، ويكون الهجر بالقلب واللسان والبدن، فمن الهجر بالبدن قوله تعالى: (وَاهْجُروهُنَّ فِي المَضَاجِعِ).
ومن الهجر باللسان قول عائشة- رضي الله عنها- لما قال لها النبي صلى الله عليه وسلم: "إني لأعلم إذا كنت عني راضية وإذا كنت عليَّ غضبى، أما إذا كنتِ عليَّ راضيةً فإنك تقولين: لا ورب محمد، وإذا كنت غضبى قلت: لا ورب إبراهيم، قالت: أجل، والله يا رسول الله ما أهجر إلا اسمك" (2) ومن الهجر بالقلب ما جاء في حديث: "من الناسِ مَن لا يذكر الله إلا مهاجرًا" قال ابن الأثير نقلاً عن الهروي: يريد هُجران وترك الإخلاص في الذكر فكأنَّ قلبه مهاجر للسانه غير مواصل له".
أما شرعًا:
فقد عرفها الجرجاني: "هي ترك الوطن الذي بين الكفار والانتقال إلى دار الإسلام" (3)وأعم منه ما قاله الحافظ ابن حجر: "الهجرة في الشرع ترك ما نهى الله عنه" (4)، لقوله – صلى الله عليه وسلم: "المهاجر من هجر ما نهى الله عنه" (5) وهي تشمل الهجرة الباطنة، وهي: ترك ما تدعو إليه النفس الأمارة بالسوء وما يزينه الشيطان، والظاهرة وهي: الفرار من بالدين من الفتن.
ثانيًا: شرط الهجرة:
شرط الهجرة الحقة أن تكون لله تعالى ابتغاء الأجر وطلباًِ للثواب ورفعة للدين، وينبغى أن تجرد النوايا من كل عرض دنيوى كالرغبة في المال أو الزواج أو الجاه؛ ولذا قال النبي صلى الله عليه وسلم: "إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى، فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله ومن كانت هجرته إلى دنيا يصيبها أو امرأة ينكحها فهجرته إلى ما هاجر إليه"، وقد رُوي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنه في قوله: (إِذَا جَاءَكُمْ الْمُؤْمِنَاتُ مُهَاجِرَاتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ). قال: كانت المرأة إذا أتت النبي– صلى الله عليه وسلم– حلفها بالله ما خرجت من بغض زوج، وبالله ما خرجت رغبةً بأرضٍ عن أرض، وبالله ما خرجت التماس دنيا، وبالله ما خرجت إلا لله ورسوله" (6).
والهجرة تحت أي مسمى غير ابتغاء الأجر ونصرة الدين لا بد أن يكشف أصحابها حتى يميزوا عن المخلصين من المهاجرين. فيعرف فلان أنه مهاجر المال، وآخر مهاجر الزوجة، وآخر مهاجر السلطة.
وقد روى وكيع في كتابه عن الأعمش عن أبي وائل عن ابن مسعود قال: كان فينا رجل خطب امرأة يقال لها أم قيس فأبت أن تتزوجه حتى يهاجر فهاجر فتزوجها، فكنا نسميه مهاجر أم قيس، قال ابن مسعود: "مَن هاجر لشيء فهو ".
ثالثًا: أنواع الهجرة:
ومن التعريف اللغوي السابق يستطيع أن تقسم الهجرة إلى نوعين لا ثالث لهما:
الأول: الانتقال من مكان إلى مكان، ويشمل:
* الهجرة إلى النبي صلى الله عليه وسلم في المدينة، وهي أشرف الهجرات وأفضلها.
* الهجرة من دار الكفر على دار الإسلام، وهذا يختلف حكمها باختلاف الأوضاع.
* هجرة أهل الذنوب والمعاصي وأهل الأهواء والبدع.
* الهجرة إلى الشام في آخر الزمان عند ظهور الفتن فعن عبد الله بن عمرو قال: سمعت رسول الله– صلى الله عليه وسلم– يقول: "ستكون هجرة بعد هجرة فخيار أهل الأرض ألزمهم مهاجر إبراهيم ويبقى في الأرض شرار أهلها" (7).
الثاني : الهجرة إلى الله تعالى ورسوله وهى حقيقة الهجرة ومقصودها وهى تتضمن :
* هجرة القلب من محبة غير الله إلى محبته ومن عبودية غيره إلى عبوديته، ومن خوف غيره ورجائه والتوكل عليه إلى خوف الله ورجائه والتوكل عليه، ومن دعاء غيره وسؤاله والخضوع له والذل والاستكانة له، وهذا بعينه معنى الفرار إليه تعالى قال تعالى: (فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ (50)) (الذاريات).
* الهجرة لرسول الله صلى الله عليه وسلم وتكون باتباع سننه وتحكيمها والتحاكم إليها وتقديمها على جميع الأهواء والآراء والأذواق ونبذ البدع والمحدثات التي نهى عنها الإسلام.
وهجر القلب إلى الله بالتسليم والتوكل والخضوع والهجرة إلى الرسول بالاتباع الكامل هما ما يدفعان المسلم إلى ترك دار الكفر والتحول إلى دار الإسلام، وترك الأوطان والإقلاع من الأموال والأولاد والتضحية بكل هذا من أجل الله ورسوله ودينه.
رابعًا: الثناء على المهاجرين
لما كانت الهجرة حدثًا فارقًا في حياة الأمم فقد نقل الجماعة المسلمة من مرحلة الدعوة إلى مرحلة الدولة؛ لذا كانت الهجرة الأولى إلى دار الإسلام الأولى المدينة المنورة واجبة على كل مسلم آمن بالله ورسوله لا يكتمل إسلامه ولا تسلم عقيدته إلا بالرحيل إلى رسول الله والانطواء تحت لوائه.
ومن أجل أن يكون للمسلمين كيان قوى ودولة فتية ويصبحوا أمةً عظيمة، سلك القرآن الكريم والسنة النبوية أسلوب الترغيب والثناء، وبيان الفضل لمَن هاجر والترهيب والوعيد لم قعدت به همته وضعف عزيمته عن اللحاق برسول الله والفرار إليه.
أولاً: فضل المهاجرين:
- أهل لرحمة الله تعالى: قال تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُوْلَئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَةَ اللَّهِ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (218)) (البقرة)، فقد وصفهم الله تعالى في الآية الكريمة بثلاث صفات بالإيمان والهجرة، وهي مفارقة المألوف والمحبوب لرضا الله تعالى فالمهاجر يترك وطنه وأمواله وأهله وخلانه تقرباً إلى الله ونصرة لدينه.
الجهاد وهو بذل الجهد في مصارعة الأعداء وقمع دين الشيطان وهو ذروة الأعمال الصالحة وحقيق بمن كان هذا حاله أن يكون من الراجين رحمة الله فقد أتى بالسبب الموجب للرحمة. وإنما قال يرجون وقد رحمهم لأنه لا يعلم أحد في هذه الدنيا أنه صائر إلى الجنة ولو بلغ في طاعة الله كل مبلغ لأمرين أحدهما:
لا يدرى بما يختم له والثاني: لئلا يتكل على عمله فهؤلاء قد غفر الله لهم ومع ذلك يرجون رحمة الله.
2- أهل لمغفرته وتكفير سيئاتهم ومحو ذنوبهم: قال تعالى: (فَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَأُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأُوذُوا فِي سَبِيلِي وَقَاتَلُوا وَقُتِلُوا لأكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلأدْخِلَنَّهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ ثَوَابًا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الثَّوَابِ (195)) (آل عمران).
وإضافة الثواب إلى الله ونسبته إليه يدل على عظمته فالله لا يعطي إلا جزيلاً كثيرًا، وقد اعتبر النبي صلى الله عليه وسلم الهجرة عملاً ضخمًا يستحق صاحبه محو جميع معاصيه، وأنها تتضاءل وتتصاغر إزاء هذا العطاء الكبير فقال لعمرو بن العاص: أما علمت أن الإسلام يهدم ما كان قبله، وأن الهجرة تهدم ما كان قبلها، وأن الحج يهدم ما كان قبله.
وعن جابر أن الطفيل بن عمرو الدوسي أتى الني صلى الله عليه وسلم – فقال : يا رسول الله هل لك في حصن حصين ومنعة ؟ قال : حصن كان لدوس في الجاهلية، فأبى ذلك النبي – صلى الله عليه وسلم – للذي ذخر الله للأنصار.فلما هاجر النبي – صلى الله عليه وسلم – للمدينة هاجر إليه الطفيل بن عمرو وهاجر معه رجل من قومه فاجتووا في المدينة فمرض فجزع فأخذ مشاقص له فقطع بها براجمه فشخبت يداه حتى مات فرآه الطفيل بن عمرو في منامه وهيئته حسنة، ورآه مغطياً يديه فقال له : ما صنع ربك بك؟ فقال غفر لي بهجرتي إلى نبيه – صلى الله عليه وسلم" (8)
3- أهل للقدوة لأنهم أهل السبق في الجهاد والهجرة. قال تعالى: (وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنْ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (100)) (التوبة).
فالسبق بالهجرة وترك الوطن والمال على الفور استجابة للنداء الإلهي يجعلهم أهلاً لأن يقتدي بهم من جاء بعدهم ويتأس بهجرتهم وجهادهم إخوانهم من أهل الإيمان. فالمهاجرون الأولون هم رؤساء المسلمين وسادتهم. وقد نوه النبي– صلى الله عليه وسلم – أن الأحق بالإمامة في الدين والأجدر في قيادة الناس في عبادتهم وجهادهم السابقون في الهجرة، فقال – صلى الله عليه وسلم -: "يؤم القوم أقرؤهم لكتاب الله فإن كانت قراءتهم سواء فليؤمهم أقدمهم هجرة فإن كانوا في الهجرة سواء فليؤمهم أكبرهم سنًّا" (9).
4- لقد وعد الله تعالى المهاجرين بسعة في الرزق وتمكين في الدين تعويضًا لهم عما فقدوه من الأموال والأوطان، قال تعالى: (وَالَّذِينَ هَاجَرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ قُتِلُوا أَوْ مَاتُوا لَيَرْزُقَنَّهُمْ اللَّهُ رِزْقًا حَسَنًا وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ (58)) (الحج).
وقال أيضًا: (وَمَنْ يُهَاجِرْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يَجِدْ فِي الأَرْضِ مُرَاغَمًا كَثِيرًا وَسَعَةً وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهَاجِرًا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا (100)) (النساء).
قال ابن كثير – رحمه الله – هذا تحريض على الهجرة وترغيب في مفارقة المشركين وأن المؤمن حيثما ذهب وجد عنهم مندوحة وملجأ يتحصن فيه. فالله وعد المهاجر بالسعة في الرزق وبالفرج بعد الضيق والتمكين في الأرض بعد التخفي والحصار. وقال أيضًا: (وَالَّذِينَ هَاجَرُوا فِي اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُوا لَنُبَوِّئَنَّهُمْ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً) (النحل: من الآية 41).
5- المهاجرون أهل الجنة الأولون الفائزون الخالدون فكما كانوا سابقين في هجرتهم وجهادهم فهم أيضاً أصحاب الدرجة الرفيعة والمنزلة العالية لا يقدمهم إلى رضوان الله والجنة أحد مهما علا شأنه قال تعالى: (الَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ أَعْظَمُ دَرَجَةً عِنْدَ اللَّهِ وَأُوْلَئِكَ هُمْ الْفَائِزُونَ (20) يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُمْ بِرَحْمَةٍ مِنْهُ وَرِضْوَانٍ وَجَنَّاتٍ لَهُمْ فِيهَا نَعِيمٌ مُقِيمٌ (21) خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ (22)) (التوبة).
وفي إيضاح هذه المنزلة يقول النبي صلى الله عليه وسلم لعبد الله بن عمرو بن العاص: "أتعلم أول زمرة تدخل الجنة من أمتي؟ قال: الله ورسوله أعلم، قال: "المهاجرون يأتون يوم القيامة إلى باب الجنة ويستفتحون فيقول الخزنة أو قد حوسبتم؟ فيقولون: بأي شيء نحاسب؟ وقد كانت أسيافنا على عواتقنا في سبيل الله حتى متنا على ذلك، قال: فيفتح لهم فيقيلون فيه أربعين عامًا قبل أن يدخلها الناس"(10).
ثانيا: الوعيد والتهديد لمن لم يهاجر:
1- لقد توعد الله تعالى المسلمين الذين امتنعوا عن الهجرة والفرار بالدين وبالعقاب الأليم ونعتهم بأبشع وصف وهو ظلم النفس.
2- فقال تعالى: "إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلآئِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُواْ فِيمَ كُنتُمْ قَالُواْ كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الأَرْضِ قَالْوَاْ أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُواْ فِيهَا فَأُوْلَـئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءتْ مَصِيرًا" (النساء: من الآية 97)، وسبب نزول هذه الآية الكريمة كما ذكر ابن جرير الطبري عن ابن عباس أنه قال: "كان قوم من أهل مكة أسلموا وكان يستخفون بالإسلام فأخرجهم المشركون يوم بدر فأصيب بعضهم فقال المسلمون: كان أصحابنا هؤلاء مسلمين وأكرهوا فاستغفروا لهم فنزلت: "إن الذين توفاهم الملائكة..."، قال: فكتب إلى من بقي بمكة من المسلمين بهذه الآية لا عذر لهم قال: فخرجوا فلحقهم المشركون وأعطوهم الفتنة فنزلت: "9 وَمِنَ النَّاسِ مَن يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ فَإِذَا أُوذِيَ فِي اللَّهِ جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذَابِ اللَّهِ.... " (العنكبوت:10).
3- فكتب المسلمون إليهم بذلك فحزنوا وأيسوا من كل خير ثم نزل فيهم " ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ هَاجَرُواْ مِن بَعْدِ مَا فُتِنُواْ ثُمَّ جَاهَدُواْ وَصَبَرُواْ إِنَّ رَبَّكَ مِن بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ" (النحل:109).
ولقد كان لهذا العتاب أثره البالغ على من لم يهاجر ودفع بعضهم إلى الهجرة رغم كبر السن وشدة المرض، ولم يروا عذرًا لأنفسهم في القعود في دار الشرك ولم يبحثوا عن رخصة يركنوا إليها فهذا جندب بن خمرة الجندعي لما نزلت الآية: "إن الذين توفاهم الملائكة" قال: اللهم أبلغت في المعذرة والحجة ولا معذرة لي ولا حجة ثم خرج وهو شيخ كبير فمات ببعض الطريق فقال أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم مات قبل أن يهاجر فلا ندري أعلى ولاية أم لا؟ فنزلت " وَمَن يَخْرُجْ مِن بَيْتِهِ مُهَاجِرًا إِلَى اللّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلى اللّهِ" (النساء:100) (11).
خامسًا: الهجرة سنة من قبلك من رسلنالم تكن هجرة النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة بدعا وحدثًا غير مسبوق بل كانت حلقة في تاريخ الدعوات الصادقة والنبوت الفاضلة.
فالأنبياء والمصلحون يأبون، أن يعيشوا حياة الضيم ويرضوا بالواقع الذليل ويقبعوا في جو تعد فيه الأنفاس وتحصى فيه الكلمات؛ لأن لهم طبيعة جبلت على الحرية وعشقت الانطلاق والحركة، كما أنهم أصحاب رسالة ودعوة وفي أعناقهم أمانة وفكرة.
والقيد والظلم يمنعهم من تبليغ الأمانة وتوصيل الرسالة وإنقاذ البشرية من شركها وهدايتها من حيرتها.
فكان لا بد من الهجرة والارتحال والبحث عن نفوس تقبل الإيمان وعقول تتفهم الإسلام ولنضرب على ذلك بثلاثة أمثلة:
1- الخليل إبراهيم عليه السلام: إني ذاهب إلى ربى سيهدين.
منذ نشأ في العراق حيث كان قومه يعبدون الأصنام ولم تفلح دعوته في عودتهم إلى توحيد الله تبارك وتعالى ولم يؤمن إلا نفر قليل منهم ولم يجد آذانًا صاغية وقلوبًا واعية بل وجد صدودًا وإعراضًا ونال الخليل إبراهيم من الإيذاء ما لم ينله أحد حتى أنهم أوقدوا نارًا عظيمة وألقوه فيها فأنجاه الله منها: " قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلَامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ" (الأنبياء: 69).
وبعد هذه الحادثة كانت هجرته هو وزوجته سارة وابن أخيه لوط الذي آمن بدعوته إلى الشام قال تعالى: " فَآمَنَ لَهُ لُوطٌ وَقَالَ إِنِّي مُهَاجِرٌ إِلَى رَبِّي إِنَّهُ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ" (العنكبوت:26) وبعث الله تعالى لوطًا رسولاً إلى أهل سدوم في أطراف الأردن، وبسبب هذه الهجرة المباركة رزق الله تعالى الخيل الذرية الصالحة وجعل النبوة في عقبه من بعده قال تعالى: " وَنَجَّيْنَاهُ وَلُوطًا إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا لِلْعَالَمِينَ 71 وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَقَ وَيَعْقُوبَ نَافِلَةً وَكُلًّا جَعَلْنَا صَالِحِينَ 72 وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْرَاتِ وَإِقَامَ الصَّلَاةِ وَإِيتَاء الزَّكَاةِ وَكَانُوا لَنَا عَابِدِينَ " (الأنبياء:71،72،73).
وكانت الهجرة الثانية إلى مصر بعد أن أصاب الشام قحط شديد ومجاعة كبيرة. وكانت معه زوجته سارة.
وكانت الهجرة الثالثة؛ حيث أخذ إبراهيم زوجته الثانية هاجر ورضيعها إسماعيل إلى مكة فتركهما هناك وعاد بعد أن دعى لهما بدعوة طيبة قال تعالى: " رَّبَّنَا إِنِّي أَسْكَنتُ مِن ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِندَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُواْ الصَّلاَةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِّنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُم مِّنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ" (إبراهيم:37).
وهكذا كانت حياة الخليل المديدة هجرة وترحال ودعوة وجهاد ومفارقة للأوطان وعشقًا للسفر في سبيل الله تعالى: " إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا لِلّهِ حَنِيفًا وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ" (النحل:120).
المثال الثاني: موسى عليه السلام: فخرج منها خائفًا يترقب، وكانت هجرته الأولى يوم أن أخبر أن مؤامرة تدار في قصر فرعون لقتله ثأرًا للرجل المصري الذي وكزه موسى فقضى عليه، فخرج من مصر خائفًا إلى صحراء مدين طالبًا للنجاة من القتل، ومكث هناك عشر سنين.
قال تعالى: " وَلَمَّا تَوَجَّهَ تِلْقَاء مَدْيَنَ قَالَ عَسَى رَبِّي أَن يَهْدِيَنِي سَوَاء السَّبِيلِ" (القصص:22).
وكانت الهجرة الثانية من مصر أيضًا فرارًا بمن آمن معه إلى سيناء من فرعون وجنوده وقد نجاه الله تعالى وأغرق آل فرعون: " وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنْ أَسْرِ بِعِبَادِي إِنَّكُم مُّتَّبَعُونَ" (الشعراء:52) المثال الثالث: أهل الكهف: " فَأْوُوا إِلَى الْكَهْفِ يَنشُرْ لَكُمْ رَبُّكُم مِّن رَّحمته ويُهَيِّئْ لَكُم مِّنْ أَمْرِكُم مِّرْفَقًا" (الكهف:16).
فهؤلاء الفتية الذين آمنوا بالله الواحد القهار وأبوا أن يشركوا معه غيره ولم يجدوا ما ينقذهم من القتل المحقق والحفاظ على دينهم وعقيدتهم إلا مفارقة القوم الظالمين والفرار إلى المغارة والهجرة إلى الله تعالى الذي حبب إليهم الكهف المظلم الموحش القفر إلى مكان تنتشر فيه الرحمة وتملأه السكينة قال تعالى: " وَإِذِ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ فَأْوُوا إِلَى الْكَهْفِ يَنشُرْ لَكُمْ رَبُّكُم مِّن رَّحمته ويُهَيِّئْ لَكُم مِّنْ أَمْرِكُم مِّرْفَقًا"(الكهف:16).
سادسًا: حظنا من الهجرة.
تظل الهجرة ذات مدلول واسع وعطاء كبير يتجدد مع كل زمان، كل يأخذ منه بحظ وافر، وأما حظنا اليوم فهو:
1- لا بد أن يعتقد المسلم أن الهجرة المكانية باقية إلى يوم القيامة، وأنه يرفض حياة الذل ويأبى مقام القيد والسجن، وأن الاحتفاظ بدينه وعقيدته أعز عنده وأكرم من البقاء في وطن لا يستطيع أن يقيم شعائر ربه ولا يملك فيه حريته ولا يأمن فيه على نفسه وماله.
2- أن يكون المسلم جاهزًا للهجرة من أجل نجدة إخوانه وتخليصهم من قيد الأسر والحصار فالهجرة والجهاد صنوان وتبقى الهجرة ما بقى الجهاد، وقد روى ابن حجر العسقلاني في الإصابة (1/245)، عن أبي الخير أن عبادة بن أبي أمية حدثه أن رجالاً من الصحابة قال بعضهم: إن الهجرة قد انقطعت فاختلفوا في ذلك فانطلقت إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: إن الهجرة لا تنقطع ما كان الجهاد" وإن واجب الهجرة اليوم يتطلب من كل مؤمن نفرة إلى أرض الأقصى الأسير لإنقاذه من يراشن اليهود ودعم أهل فلسطين في جهادهم ومناصرتهم لتحرير أرضهم وحفظ مقدساتهم، وإطعامهم جائعهم وكسوة عاريهم وإقامة دولتهم من النهر إلى البحر ونيل حقوقهم كما نص عليها الدين والقانون.
وقد روى ابن حجر العسقلاني في هداية الرواة 5/497، وحسنه عن عبد الله بن عمرو العاص قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إنها ستكون هجرة بعد هجرة إلى مهاجر إبراهيم عليه السلام وفي رواية فخيار أهل الأرض ألزمهم مهاجر إبراهيم ويبقى في الأرض شرار أهلها تلفظهم أرضوهم وتقذرهم نفس الله تحشرهم النار مع القردة والخنازير تبيت معهم إذا باتوا وتقيل معهم إذا قالوا" (12)، ومعلوم أن مهاجر إبراهيم هي أرض الشام أرض الرباط والجهاد.
3- هجرة أهل الكفر والفسق إن هم عاندوا وأصروا بعد الدعوة والبيان، قال تعالى: "وَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَاهْجُرْهُمْ هَجْرًا جَمِيلًا".
وأيضا قوله تعالى: " يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ 1 قُمْ فَأَنذِرْ 2 وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ 3 وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ 4 وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ " (المدثر:5، 4، 3، 2، 1).
4- الحذر من هجرة كتاب الله تعالى قراءة وفهم وتدبرًا وحفظًا وعملاً وتخلقًا حتى لا يكون ممن قيل فيهم: " وَقَالَ الرَّسُولُ يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآنَ مَهْجُورًا" (الفرقان:30).
5- وليحذر المسلم من هجر ما وصى الله بوصله فلا يهجر أخاه فوق ثلاث فعن عبد الله بن عمر وأنس بن مالك قالا: "نهى رسول الله أن يجاوز بالهجرة في الكلام ثلاثًا"(13).
6- أن يعظم المسلم في نفسه أحداث الهجرة الأولى ويوقر ويدعوا للمهاجرين الأولين بكل خير. "9 وَالَّذِينَ جَاؤُوا مِن بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِّلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ" (الحشر:10).
7- كما يقتدي بجهادهم وثباتهم وحبهم لدينهم وإيثاره على ما عداه من الأوطان والأموال والأولاد.
هذا وبالله التوفيق.
----------------
* الهوامش:
1 - المعجم الوسيط ج2 ص 868
2 - التوقيف على مهمات التعريف ص 738
3- فتح الباري ج11 ص 263
4 - التعريفات ج1 ص82
5- البخاري انظر فتح الباري ج1 ص53
6- أخرجه ابن أبى حاتم وابن جرير والبزار
7 - أخرجه أبو داوود رقم 2482 ، حسنه الألباني في تخريج مناقب الشام وأهله صـ 79.
8- رواه مسلم رقم 121
9 - رواه مسلم.
10- رواه الحاكم جـ2/70 بسند صحيح ووافقه الذهبي
11 - تفسير ابن جرير جـ4 صـ239.
12- رواه أبو داوود في سننه وصححه الألباني "رقم 3213 "
13 - رواه البيهقي في السنن الصغير
مقال 3
الهجرة.. وبناء الدولة
رسالة من: أ.د. محمد بديع المرشد العام للإخوان المسلمين
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله ومَن والاه وبعد،
حينما وصل رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة المنورة- مهاجرًا من مكة المكرمة- اُستقبِل منذ اللحظة الأولى ليكون إمامًا لأمة، وحاكمًا لشعب، وقائدًا لنهضة، ومؤسسًا لحضارة، إنسانية رفيعة تستمد كل مقوماتها من منهج السماء.. لإنقاذ البشرية كلها وإخراجها من الظلمات إلى النور.
نعم ظلَّت دعوته الأصلية قائمة واضحةً جلية (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا (٤٥) وَدَاعِيًا إِلَى اللَّـهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجًا مُنِيرًا (٤٦)) (الأحزاب).. نبيًّا يُوحَى إليه، ورسولاً يُبلِّغ رسالة ربه.. وأُضيف إليها في المدينة المنورة (إِنَّا أَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّـهُ وَلاَ تَكُن لِّلْخَائِنِينَ خَصِيمًا (١٠٥)) (النساء)، (وَأَنِ احْكُم بَيْنَهُم بِمَا أَنزَلَ اللَّـهُ وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَن يَفْتِنُوكَ عَن بَعْضِ مَا أَنزَلَ اللَّـهُ إِلَيْكَ..) (المائدة: من الآية 49)، (فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مَمَا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا (٦٥)) (النساء)، (أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّـهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ (٥٠)) (المائدة).
لقد آن للنظرية أن تتحقق، وللمنهج أن يُطبَّق، وللدعوة المباركة أن تتحول إلى دولةٍ رشيدةٍ، بكل مقومات الدولة الصحيحة.. لتُخرج للحياة (خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ..) (آل عمران: من الآية 110)، ولتخرج للبشرية النموذج الصحيح للحياة والإنسانية التي يرضاها رب العزة لخلقه (اليَومَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلَامَ دِينًا) (المائدة: من الآية 3) (فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُم مِني هُدًى فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلاَ يَشْقَى (١٢٣)) (طه).
وليس أدل على ذلك إلا الاستقبال الحبيب من أهل المدينة لرسول الله صلى الله عليه وسلم بعد طول انتظار وترقب وشوق.. بهذا النشيد الخالد الذي سجَّله التاريخ بأحرفٍ من نور، وردده الكون كله مع رجال ونساء وفتيان المدينة:
طلع البدر علينا... من ثنيات الوداع
وجب الشكر علينا... ما دعا لله داع
أيها المبعوث فينا ... جئت بالأمر المطاع
إذن.. هو الأمر المطاع والدستور الحاكم، والقانون المتبع، والمنهج المستحب.. هو الشريعة المنظمة لكل شئون الحياة (ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِنَ الْأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ (١٨)) (الجاثية).
أول كلماتٍ قالها الرسول العظيم صلى الله عليه وسلم وسمعها منه أهل المدينة عن بكرة أبيهم: "أيها الناس أفشوا السلام، وأطعموا الطعام، وصِلوا الأرحام، وصَلّوا بالليل والناس نيام تدخلوا الجنة بسلام".
- فأما إفشاء السلام.. فمعناه إشاعة الأمن والأمان؛ فلا يقوم مجتمع ولا تنهض أمة، ولا تنشأ حضارة، ولا يُبدع إنسان.. إلا في ظل الأمن والأمان "كل المسلم على المسلم حرام.. دمع وماله وعرضه".
- وأما إطعام الطعام: فمعناه توفير الاحتياجات الأساسية لكل أفراد المجتمع، فما ينبغي أن يجوع في المجتمع المسلم أي إنسان- بل حتى الحيوان-.. لأن المجتمع كله يأثم شرعًا بذلك "ليس منا مَن باتَ شبعان وجاره جائع وهو يعلم"، ولا تنفع صلاة ولا عبادة إلا بأداء حق الضعفاء والمحتاجين (وَالَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَّعْلُومٌ (٢٤) للسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ (٢٥)) (المعارج)، (أَرَأَيْتَ الَّذِي يُكَذِّبُ بِالدِّينِ (١) فَذَٰلِكَ الَّذِي يَدُعُّ الْيَتِيمَ (٢) وَلاَ يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ (٣) فَوَيْلٌ لِّلْمُصَلِّينَ (٤) الَّذِينَ هُمْ عَن صَلاتِهِمْ سَاهُونَ (٥) الَّذِينَ هُمْ يُرَاءُونَ (٦) وَيَمْنَعُونَ الْمَاعُونَ (٧)) (الماعون).
- وأما صلة الأرحام: فهي تقوية للوشائج الإنسانية، وتدعيم للروابط الاجتماعية، التي بدونها تفقد الحياة أجمل معانيها.. إن الأهل والعشيرة والقرابة والرحم والنسب والمصاهرة تمثل كلها سياجًا عاطفيًّا يعيش فيها المجتمع الحاضر وتنمو فيها الأجيال الجديدة في جوٍّ من الحبِّ والترابط والتعاطف والتآلف.
- وأما الصلاة بالليل والناس نيام.. فهي ميزة الحضارة الإسلامية الرفيعة السامقة إنها حضارة مرتبطة بالله تعالى.. تستمد منه العون والهدى (إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ (٥)) (الفاتحة)، تذوق من خلالها نعمة الاطمئنان (أَلاَ بِذِكْرِ اللَّـهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ (٢٨)) (الرعد) (بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ) (سبأ: من الآية ١٥)، تطمئن على الحاضر القريب والمستقبل البعيد، على البداية والنهاية والخلود (وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّـهِ) (البقرة: من الآية ٢٨١)، (يَا أَيُّهَا الْإِنسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحًا فَمُلَاقِيهِ (٦)) (الانشقاق)، فليس بالطعام فقط يحيا الإنسان.. إن هناك جوعة روحية وظمأ قلبيًّا لا يشبعها إلا الصلة الوثيقة برب الأرض والسماء.
كانت أولى خطواته العملية صلى الله عليه وسلم بناء المسجد وإصلاح السوق.
- بناء المسجد: ليكون المنطلق لبناء الإنسان الصالح والمجتمع الصالح رجالاً ونساءً.. صغارًا وكبارًا، وتتحول إحدى الصلوات المفروضة إلى صلاة جامعة يوم الجمعة.. نصفها بيان وإرشاد، وتفصيل وتوضيح ومناقشة لكل ما يهم المجتمع في حاضره ومستقبله.. "من لم يهتم بأمر المسلمين فليس منهم"، ونصفها الآخر عبادة مختصرة في ركعتين فقط تربط الصف المؤمن بخالقه ومنشئه وراعيه.
- وأما إصلاح السوق: لتنتعش الحياة الاقتصادية وترتقي المعاملات المادية، فلا يحتكر القوتَ محتكرٌ، ولا يتحكم في أقوات الناس وأسعار السلع أصحاب الأغراض وأغنياء الحرب ومنتهزو الأزمات.
وكان من أعظم وأهم خطوات البناء لإقامة الدولة الرشيدة تلك المؤاخاة العجيبة التي جمعت أشتات المجتمع الإنساني كله على اختلاف الأجناس والانتماءات.
- كان قد آخى- قبل الهجرة- بين أبي بكر العربي القرشي وصهيب الرومي وبلال الحبشي وسلمان الفارسي.. كلهم إخوة في الله وشركاء في الحياة.
- ومع وصوله للمدينة آخى بين الأوس والخزرج، وقد كانا فريقين مختلفين متنازعين بينهما حروب وعداوات رغم وجودهما في مدينةٍ واحدة.
- ثم آخى بين المهاجرين والأنصار في إطارٍ من الحب العظيم (ما نزل مهاجري على أنصاري إلا بقرعة)، على عكس ما يحدث في تاريخ الهجرات الكبيرة حتى سجَّلها القرآن الكريم كنموذجٍ فريدٍ غير مسبوقٍ للسماحة الإنسانية حين يحدوها الإيمان بالله (وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالإِيمَانَ مِن قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلاَ يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مَمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (٩)) (الحشر).
- ثم أعلنها مؤاخاةً إنسانيةً جامعةً تجمع حتى المخالفين في الدين والعقيدة، فعقد المعاهدة تلو المعاهدة مع يهود المدينة، وأعلن الميثاق الخالد الذي تشرف به الإنسانية "لهم ما لنا وعليهم ما علينا".. غير أن اليهود بادلوه بالغدر والخديعة ونقض العهود وإشعال الحروب.
- استقبل وفود العالم وراسل قادة الأمم ودعاهم إلى مبادئ إنسانية عالية، مذكرًا إيَّاهم بعهدهم مع أنبيائهم ووصايا الأنبياء السابقين إليهم.
هذه هي الخطوات المباركة لرسول الله صلى الله عليه وسلم لبناء أعظم دولةٍ عرفها العالم وشهد لها التاريخ.. وهي الخطوات التي نترسمها الآن ونحن نعيد بناء أمتنا من جديدٍ بعد عقود من التيه والضياع.. نعود لنستلهم من رسول الله صلى الله عليه وسلم في هجرته الشريفة وإقامة دولته الفريدة عبقرية البناء.. المؤيدة بوحي السماء.
والله أكبر ولله الحمد.
سيد الرسل محمد، صلى الله عليه وسلم، وهو يعلن بكل وضوح، ويؤكد بلا أدنى شك أن الناس سواسية، وكلهم يخضعون للقانون والشرعية، لا فرق
مقال 4
أحداث سبقت الهجرة.. ودروس مستفادة
بقلم: د. جمال حامد محمد
الهجرة من سنن الأنبياء عليهم السلام، والهجرة النبوية تتعلق بترك الوطن إلى موطن آخر ابتغاء مرضاة الله. حاول سادة قريش صرف سيدنا محمد (ص) عن دعوته والوقوف في وجه هذه الدعوة رغم قناعتهم بصدق رسالته. ومن ثم استخدموا كل أساليب الإغراء والتهديد والتكذيب والإيذاء له ولأتباعه والحصار الاقتصادي والاجتماعي. وكان لا بد أن تجد الدعوة حاضنة لها في بلد آخر، ومن ثم كانت الهجرة، فترك المهاجرون أموالهم ومساكنهم وتحملوا المشاق فرارًا بدينهم. ويعتبر المهاجرون أهل السبق في تأسيس دولة الإسلام. وتعتبر هجرته صلى الله عليه وسلم حدثًا مفصليًّا في أسبابه ودلالته وآثاره. والمقال الحالي يتناول بعض الأحداث السابقة للهجرة من زاوية التجهيز والتخطيط للهجرة، ومن ثم نؤكد على بعض الدروس المس
الأربعاء يناير 30, 2013 7:34 pm من طرف Admin
» حسن البنا مواقف في الدعوة والتربية
الأربعاء يناير 30, 2013 7:27 pm من طرف Admin
» وسائل التربية عند الإخوان المسلمين
الأربعاء يناير 30, 2013 7:22 pm من طرف Admin
» السيرة النبوية عرض وقائع وتحليل أحداث الدكتور علي محمد الصلاّبي
الأربعاء يناير 30, 2013 7:17 pm من طرف Admin
» مواقف من حياة المرشدين
الأربعاء يناير 30, 2013 7:09 pm من طرف Admin
» منهاج حسن البنا بين الثوابت والمتغيرات
الأربعاء يناير 30, 2013 7:04 pm من طرف Admin
» المتساقطون على طريق الدعوة - كيف .. ولماذا ؟
الأربعاء يناير 30, 2013 6:59 pm من طرف Admin
» مقومات رجل العقيدة على طريق الدعوة
الأربعاء يناير 30, 2013 6:54 pm من طرف Admin
» مجموعة الرسائل للامام حسن البنا
الأربعاء يناير 30, 2013 6:47 pm من طرف Admin